صورة © وكالة الأناضول/ ياسين القايدي
ما إن تدخل بهو “متحف التربية” بتونس، حتى تشعر بأن عقارب الساعة عادت بك إلى ماضٍ ولّى يروي تاريخ التعليم في هذا البلد منذ استخدام الحروف عام 1101 قبل الميلاد.
ويضم المتحف، إلى جانب مجسمات، وثائق مصورة بمختلف أنواعها تتعلق بتاريخ التعليم، ونصوص قانونية وإدارية منظِمَة للمدرسة التونسية، بالإضافة إلى كتب مدرسية وأدوات للتعلم، وأعمال طلابية، وأثاث مدرسي.
صورة © وكالة الأناضول/ ياسين القايدي
وتتصدر أدوات تعلم الكتابة، واجهة المتحف، حيث جناح الحروف في تونس، وفي حوض المتوسط منذ زمن الفينيقيين في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، مروراً باللوبية، واليونانية ثم اللاتينية، فالعبرية، وصولاً إلى العربية.
وما أن تنتهي من هذا الجناح، حتى يدفعك الفضول إلى تلك القاعة الخاصة بالتعليم “الزيتوني” والمسماة بـ”الكتّاب” والتي كانت المدرسة الأساسية لتعلم القرآن الكريم في تونس.
صورة © وكالة الأناضول/ ياسين القايدي
وتحتضن هذه القاعة تماثيل من الشمع، تظن للوهلة الأولى أنها حقيقية، تجسد فصلاً من الدراسة على الطريقة التقليدية، وكل ذلك في حضرة “سيدي المدب”، الذي كان يعلم الصبية تعاليم القرآن، مع بداية القرن الماضي.
وعن هذا المكان، تقول زهوة مدين، متصرفة بالمتحف، إنه “تجسيد للتعليم التقليدي التونسي، لاسيما الألواح التي كانت تُستعمل للكتابة بالحبر الذي يتم صُنعه وإعداده من الصمغ باستعمال صوف الخرفان بعد أن يُحرق ويتم رحيه، ويصبح مثل الطحين ليضاف له الماء ويستعمل في الكتابة بالريشة الرقيقة للغة العربية، والسميكة للغة الفرنسية”.
صورة © وكالة الأناضول/ ياسين القايدي
وعادة ما تُطلى الألواح، التي غالباً ما تكون من الخشب أو عظام كتف الإبل ، بمادة من الطين، لكي يُزال الحبر بسهولة، لتستعمل لاحقاً للكتابة أكثر من مرة.
و”المدب”، أو الشيخ، له مكانه الخاص في الجلسة، وعادة ما يكون ضريراً، حيث كان يستعمل العصا الطويلة لتحسس مكان الصبية، ومن يتفوق منهم يلتحق بالزيتونة، وينال شهادة في ذلك، بحسب مدين.
صورة © وكالة الأناضول/ ياسين القايدي
وتتنوع طرق العقاب عند “المدب” بين “الفلقة”، عصا غليظة تُربط فيها قدما التلميذ المقصر وتُضربا بالسياط، وكذلك الوقوف على عيدان خشنة لمدة ساعات عندما يتهاون في الدرس أو ينسى حفظ أجزاء من القرآن.
وترك التعليم الزيتوني بصمة في تاريخ التدريس بتونس، امتد لنحو 13 قرناً، وعرف تطوراً مع مشائخ سهرت على عصرنته على غرار “محمد الطاهر بن عاشور” (1879 – 1973)، ونجله ”الفاضل بن عاشور” (1909 – 1970)، وهو ما تبرزه صورهم المعروضة أمام الزائرين.
صورة © وكالة الأناضول/ ياسين القايدي
ويُنسب التعليم “الزيتوني” إلى جامع الزّيتونة، ثاني أهم المعالم الإسلامية في تونس بعد جامع عقبة بن نافع بالقيروان، وهو في الوقت نفسه أقرب ما يكون إلى جامعة إسلامية لنشر الثقافة العربية الإسلامية في بلاد المغرب.
ويُدَرّس هذا النوع من التعليم، أصول الدّين والفقه الإسلامي وكل العلُوم الصحيحة من فيزياء، وكيمياء، ورياضيات، وعلوم طبيعية، فضلاً عن الآداب العربية، وما زال قائماً حتى يومنا هذا.
صورة © وكالة الأناضول/ ياسين القايدي
في القاعة المجاورة، يصطف تلاميذ القسم على مقاعد خشبية، ويتغير المشهد لتظهر أدوات عصرية للتعليم من وسائل القيس المستعملة في علوم الحساب والجبر، ويرتدى الطلاب والمعلم لباساً خاصاً يختلف لونه من الأزرق إلى الوردي وفقاً للجنس، منتصف القرن العشرين.
ويقول مدير المتحف، المنجي واردة، إن المكان الذي يتبع المركز الوطني للتجديد البيداغوجي والبحوث التربوية “فريد من نوعه في العالم العربي، إذ هو الوحيد في هذه المنطقة”.
صورة © وكالة الأناضول/ ياسين القايدي
وتتمثل أهداف المتحف الذي تم افتتاحه قبل سبع سنوات، بحسب مديره، في تجميع كل ما له علاقة بالتراث التربوي والمحافظة عليه، وعرضه للزوار الذي يكون أغلبهم من التلاميذ والباحثين في مجال التعليم. كما يحتوي المكان على وحدة بحث تربوي تهتم بتاريخ المدرسة التونسية، وتاريخ المعرفة في البلاد بكل أطوارها ومراحلها.
ويتوسط الطابق السفلى، مكتب وزير التربية، آنذاك، محمود المسعدي، صاحب قانون إصلاح التعليم في تونس عام 1958، وهو ثاني وزير تربية في حكومة ما بعد الاستقلال 1956 ، والذي شهدت مناهج التدريس، خلال فترة وزارته، تغييرات جذرية أسست لما عُرف بـ”المدرسة العصرية”.
أما الطابق العلوي فقد احتوى على كل المعدات التقنية للتدريس باستعمال أحدث التكنولوجيا من الحاسوب، وآلات عرض الصور على الشاشة، إلى جانب ركن خصص لمشاهدة فلم وثائقي لمراحل التعليم في تونس.
وتعد تونس من البلدان بمنطقة شمال إفريقيا والشرق الاوسط التي راهنت على التعليم مع بداية النظام الجمهوري عام 1957، وكان الرئيس الأول للبلاد، الحبيب بورقيبة، قد جعل أول الأهداف في بناء الدولة الحديثة، القضاء على الأمية وتعميم التعليم لكل أبناء شعبه.